فصل: ذكر مسير الموفق إلى الأهواز وإجلاء الزنج عنها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر استيلاء الموفق على طهثا:

لما فرغ الموفق من الذي يحتاج إليه سار عن بردودا إلى كهثا لعشر بقين من ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، وكان مسيره على الظهر في خيله، وانحدرت السفن والآلات، فنزل بقرية الجوزية، وعقد جسرأن ثم غدا فعبر خيله عليه، ثم عبر بعد ذلك، فسار حتى نزل معسكراً على ميلين من طهثأن فأقام هنالك يومين.
ومطرت السماء مطراً شديدأن فشغل عن القتال، ثم ركب لينظر موضعاً للحرب، فانتهى إلى قريب من سور مدينة سليمان بطهثأن وهي التي سماها المنصورة، فتلقاه خلق كثير، وخرج عليهم كمناء من مواضع شتى، واشتدت الحرب، وترجل جماعة من الفرسان، وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الذي كانوا فيه، واسروا من غلمان الموفق جماعة.
ورمي أبوالعباس بن الموفق أحمد بن هندي الحيامي بسهم خالط دماغه، فسقط وحمل إلى العلوي، صاحب الزنج، فلم يلبث أن مات، فحضره الخبيث، وصلى عليه، وعظمت لديه المصيبة بموته، إذ كان أعظم أصحابه غناء عنه.
وانصر ف الموفق إلى عسكره وقت المغرب وأمر أصحابه بالتحاس ليلتهم والتأهب للحرب، فلما أصبحوا وذلك يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر، عبأ الموفق أصحابه، وجعلهم كتائب يتلوبعضهم بعضأن فرساناً ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها إلى النهر الذي يشق مدينة سليمان، وهوالنهر المعروف بنهر المنذر، ورتب أصحابه في المواضع التي يخاف منهأن ثم نزل فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله تعالى في النصر، ثم لبس سلاحه، وأمر ابنه أب العباس أن يتقدم إلى السور، فتقدم إليه، فرأى خندقأن فأحجم الناس عنه، فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم، فاقتحموه وعبروه، وانتهوا إلى الزنج وهم على سورهم.
فلما رأى الزنج تسرعهم إليه ولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب أبي العباس، فدخلوا المدينة، وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق، وجعلوا أمام كل خندق سورأن فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق، فكشفهم أصحاب أبي العباس، ودخلت الشذا والسميريات المدينة من النهر، فجعلت تغرق كل ما مرت له به من سميرية وشذاة، وقتلوا من بجانبي النهر وأسروا حتى أجلوهم عن المدينة وعما اتصل بهأن وكان مقدار العمارة فيها فرسخاً.
وحوى الموفق ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع ونفر من أصحابه، وكثر القتل فيهم والأسر، واستنقذ أبوأحمد من نساء أهل واسط، والكوفة، والقرى، وغيرهأن وصبيانهم أكثر من عشرين ألفاً، فأمر أبوأحمد بحملهم إلى واسط، ودفعهم إلى أهليهم، وأخذ ما كان فيها من الذخائر والأموال، وأمر بصرفه إلى الأجناد، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة، وتخلص من كان أخذ من أصحاب الموفق، ونجا جمع كثير إلى الآجام فأمر أصحابه برجل منهم جعلأن فكان إذا أتي بالواحد منهم عفا عنه وضمه إلى قواده وغلمانه، لما كان دبره من استمالتهم.
وأرسل في طلب سليمان بن جامع، حتى بلغوا دجلة العوراء، فلم يظفروا به، وأمر زيرك بالمقام بطهثا ليتراجع إلى تلك الناحية أهلها ويأمنوا.

.ذكر مسير الموفق إلى الأهواز وإجلاء الزنج عنها:

فلما فرغ أبوأحمد الموفق من المنصورة رحل نحوالأهواز لإصلاحها وإجلاء الزنج عنهأن فأمر ابنه العباس أن يتقدمه، فأمر بإصلاح الطريق للجيوش، واستخلف على من ترك من عسكره بواسطة ابنه هارون، ولحقه زيرك فأخبره بعود أهل طهثا إليهأن وأمن الناس، فأمره الموفق بالانحدار في الشذا والسميريات مع نصير، وتتبع المنهزمين، والإيقاع بهم وبمن ظفروا به من الزنج، حتى ينتهي إلى مدينة الخبيث بنهر أبي الخصيب، وسار.
وارتحل الموفق مستهل جمادى الآخرة من واسط حتى أتى السوس، وأمر مسروراً بالقدوم عليه، وهوعامله هناك، فأتاه.
وكان الخبيث لما بلغه ما عمل الموفق بسليمان بن جامع والزنج خاف أن يأتيه وهوعلى حال تفرق أصحابه عنه، وكتب إلى علي بن أبان بالقدوم إليه، وكان بالأهواز في ثلاثين ألفأن فترك جميع ما كان عنده من طعام ودواب وأغنام وغير ذلك، واستخلف عليه محمد بن يحيى الكرنبائي، فلم يقم، وابتع علياً.
وكتب صابح الزنج أيضاً إلى بهبود بن عبد الوهاب، وهوبالفيدم والباسيان، وما اتصل بهمأن يأمره بالقدوم عليه، فترك ما كان عنده من الذخائر وسار نحوه، فحوى ذلك جميعه الموفق، وقوي به على حرب الخبيث.
ولما سار علي بن أبان عن الأهواز تخلف بها جمع من أصحابه، زهاء ألف رجل، فأرسلوا إلى الموفق يطلبون الأمان فأمنهم، فقدموا عليه، فأجرى عليهم الأرزاق، ثم رحل عن السوس إلى جند يسابور، وتستر، وجبى الأموال، ووجه إلى محمد بن عبيد الله الكردي، وكان خائفاً منه، فأمنه وعفا عنه، فطلب منه الأموال والعساكر، فحضر عنده فأحسن إليه.
ثم رحل إلى عسكر مكرم ووافى الأهواز، ثم رحل عنها إلى نهر المبارك من فرات البصرة، وكتب إلى ابنه هارون ليوافيه بجميع الجيش إلى نهر المبارك، فلقيه الجيش بالمبارك منتصف رجب.
وكان زيرك ونصيراً لما خلفهما الموفق ليتتبعا الزنج انحدرا حتى وافيا الأبلة، فاستأمن إليهما رجل أخبرهما أن الخبيث قد أنفذ إليهما عدداً كثيراً في الشذا والسميريات إلى دجلة ليمنع عنها من يريدهأن فإنهم يريدون عسكر نصير، وكان عسكره بنهر المرأة، فرجع نصير إلى عسكره من الأبلة لما بلغه ذك، وسار زيرك من طريق آخر، لأنه قدر أن الزنج يأتون عسكر نصير من ذلك الوجه، فكان ذلك، فلقيهم في طريقهم، فظفر بهم، وانهزموا منه، وكانوا قد جعلوا كمينأن فدل زيرك عليه، فتوغل حتى أتاه، فقتل من الكمناء جماعة واسر جماعة.
وكان ممن ظفر به مقدم الزنج، وهوأبوعيسى محمد بن إبراهيم البصري، وهومن أكابر قوادهم، وأخذ منهم ما يزيد على ثلاثين سميرية، فجزع لذلك جميع الزنج، فاستأمن إلى نصير منهم زهاء ألفي رجل، فكتب بذلك إلى الموفق، فأمره بقبولهم والإقبال إليه بالنهر المبارك، فوافاه هناك.
وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسير إلى محاربة العلوي بنهر أبي الخصيب، فسار إليه، فحاربه من بكرة إلى الظهر فاستأمن إليه قائد من قواد العلوي ومعه جماعة، فكسر ذلك الخبيث، وعاد أبوالعباس بالظفر، وكتب الموفق إلى العلوي كتاباً يدعوه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء، وانتهاك المحارم، وإخراب البلدان، واستحلال الفروج والأموال، وادعاء النبوة والرسالة، ويبذل له الأمان، فوصل الكتاب إليه، فقرأه، ولم يكتب جوابه.

.ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج:

لما أنفذ الموفق الكتاب إلى العلوي، ولم يرد جوابه، عرض عسكره، وأصلح آلاته، ورتب قواده، ثم سار هووابنه العباس في العشرين من رجب إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة، وأشرف عليهأن وتأملها ورأى حصانتها بالأسوار والخنادق، وغور الطريق إليهأن وما أعد من المجانيق والعرادات والقسي وسائر الآلات على سورهأن مما لم ير مثله لمن تقدم من منازعي السلطان، ورأى من كثرة عدد المقاتلة ما استعظمه.
فلما عاين الزنج أصحاب الموفق ارتفعت أصواتهم حتى ارتجت الأرض، فأمر الموفق ابنه بالتقدم إلى سور المدينة والرمي لمن عليه بالسهام، فتقدم حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الخبيث، فكثر الزنج وأصحابهم على أبي العباس ومن معه، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم ومقاليعهم، ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع الطرف إلا على سهم أوحجر.
وثبت أبوالعباس، فرأى العلوي من صبره وثبات أصحابه ما لم ير مثله من أحد حاربهم، ثم أمرهم الموفق بالرجوع ففعلوأن واستأمن إلى الموفق مقاتلة في سميريتين، فأمنهم، فخلع على من فيهما من المقاتلة والملاحين على أقدارهم ووصلهم وأمر بإدنائهم إلى موضع يراهم فيه نظراؤهم، وكان ذلك من أنجع المكايد، فلما رآهم الباقون رغبوا في الأمان، وتنافسوا فيه، وابتدروا إليه، فصار إلى الموفق عدد كثير ذلك اليوم من أصحاب السميريات، فعمهم بالخلع والصلات.
فلما رأى صاحب الزنج ذلك أمر برد أصحاب السميريات إلى نهر أبي الخصيب، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج، وأمر بهبود وهومن أشرس قواده، أن يخرج في الشذوات، فخرج وبرز إليه أبوالعباس في شذواته، وقاتله، واشتدت الحرب، فانهزم بهبود إلى فناء قصر الخبيث، وأصابته طعنتان، وجرح بالسهام، وأوهنت أعضاؤه بالحجارة، فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت، فقتل ممن كان معه قائد ذوبأس يقال له عميرة، وظفر أبوالعباس بشذاة فقتل أهلهأن وهوومن معه سالمين، فاستأمن إلى أبي العباس أهل شذاة منهم، فأمنهم، وأحسن إليهم، وخلع عليهم.
ورجع الموفق ومن معه إلى عسكره بالنهر المبارك، واستأمن إليه عند منصرفه خلق كثير، فأمنهم، وخلع عليهم، ووصلهم، وأثبت أسماءهم مع أبي العباس، وأقام في عسكره يومين، ثم نقل عسكره لست بقين من رجب إلى نهر جطى فنزله، وأقام به إلى منتصف شعبان لم يقاتل.
ثم ركب منتصف شعبان ف يالخيل والرجال وأعد الشذا والسميريات، وكان من معه من الجند والمتطوعة زهاء خمسين ألفأن وكان من مع الخبيث أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان، كلهم ممن يقاتل بسيف، أورمح، أوقوس، أومقلاع، أومنجنيق، وأضعفهم رماة الحجارة من أيديهم، وهم النظارة، والنساء تشركهم في ذلك، فأقام أبوأحمد ذلك اليوم، ونودي بالأمان للناس كافة إلا الخبيث، وكتب الأمان في رقاع، ورماها في السهام، ووعد فيها الإحسان، فمالت قلوب أصحاب الخبيث، واستأمن ذلك اليوم خلق كثير، فخلع عليهم ووصلهم، ولم يكن ذلك اليوم حرب.
ثم رحل من نهر جطى من الغد، فعسكر قرب مدينة الخبيث، ورتب قواده وأجناده، وعين لكل طائفة موضعاً يحافظون عليه ويضبطونه، وكتب الموفق إلى البلاد في عمل السميريات، والشذوات، والزواريق، والإكثار منها ليضبط بها الأنهار، ليقطع الميرة عن الخبيث، وأسس في منزلته مدينة سماها الموفقية، وكتب إلى عماله في النواحي بحمل الأموال والميرة في البر والبحر إلى مدينته، وأمرهم بإنفاذ من يصلح للإثبات في الديوان، وأقام ينتظر ذلك شهرأن فوردت عليه الميرة متتابعة، وجهز التجار صنوف التجارات إلى الموفقية، واتخذت فيها الأسواق، ووردتها مراكب البحر، وبنى الموفق بها المسجد الجامع، وأمر الناس بالصلاة فيه، فجمعت هذه المدينة من المرافق، وسيق إليها من صنوف الأشياء ما لم يكن في مصر من الأمصار القديمة، وحملت الأموال، وأدرت الأرزاق.
وعبرت طائفة من الزنج، فنهبوا أطراف عسكر نصير، وأوقعوا به، فأمر الموفق نصيراً بجمع عسكره وضبطهم، وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسر إلى طائفة من الزنج كانوا خارج المدينة، فقاتلهم، فقتل منهم خلقاً كثيرأن وغمن ما كان معهم، فصار إليه طائفة منهم في الأمان، فأمنهم، وخلع عليهم ووصلهم، وأقام أبوأحمد يكايد الخبيث ببذل الأموال لمن صار إليه، ومحاصرة الباقين، والتضييق عليهم.
وكانت قافلة قد أتت من الأهواز، وأسرى إليها بهبود في سميريات فأخذهأن وعظم ذلك على الموفق، وغرم لأهلها ما أخذ منهم، وأمر بترتيب الشذوات على مخارج الأنهار، وقلد ابنه أبا العباس الشذأن وحفظ الأنهار بها من البحر إلى المكان الذي هم به.
وفي رمضان عبر طائفة من أصحاب الخبيث يريدون الإيقاع بنصير، فنذر بهم الناس، فخرجوا إليهم فردوهم خائبين، وظفروا بصندل الزنجي، وكان يكشف رؤوس المسلمات، ويقلبهن تقليب الإماء، فلما أتي به أمر الموفق أن يرمي بالسهام ثم قتله.
واستأمن إلى الموفق من الزنج خلق كثير، فبلغت عدة من استأمن إليه في آخر رمضان خمسين ألفاً.
وفي شوال انتخب صاحب الزنج من عسكر ه خمسة آلاف من شجعانهم وقوادهم، وأمر علي بن أبان المهلبي بالعبور لكبس عسكر الموفق، فكان فيهم أكثر من مائتي قائد، فعبروا ليلأن واختفوا في آخر النخل، وأمرهم، إذا ظهر أصحابهم، وقاتلوا الموفق من بين يديه، ظهروأن وحملوا على عسكره وهم غارون، مشاغيل بحرب من أمامهم، فاستأمن منهم إنسان من الملاحين، فاخبر الموفق، فسير ابنه أبا العباس لقتالهم وضبط الطرق التي يسلكونهأن فقاتلوا قتالاً شديدأن وأسر أكثرهم، وغرق منهم خلق كثير، وقتل بعضهم، ونجا بعضهم، فأمر أبوالعباس أن يحمل الأسرى والرؤوس والسميريات ويعبر بهم على مدينة الخبيث، ففعلوا ذلك.
وبلغ الموفق أن الخبيث قال لأصحابه: إن الأسرى من المستأمنة، وإن الرؤوس تمويه عليهم، فأمر بإلقاء الرؤوس في منجنيق إليهم، فلما رأوها عرفوهأن فأظهروا الجزع والبكاء، وظهر لهم كذب الخبيث.
وفيها أمر الخبيث باتخاذ شذوات، فعملت له، فكانت له خمسون شذاة، فقسمها بين ثلاثة من قواده وأمرهم بالتعرض لعسكر الموفق؛ وكان شذوات الموفق يومئذ قليلة لأنه لم يصل إليه ما أمر بعمله، والتي كانت عنده منها فرقها على أفواه الأنهار لقطع الميرة عن الخبيث، فخافهم أصحاب الموفق، فورد عليهم شذوات كان الموفق أمر بعملهأن فسير ابنه أبا العباس ليوردها خوفاً عليهم من الزنج، فلما أقبل بها رآها الزنج فعارضوها بشذواتهم، فقصدهم غلام لأبي العباس ليمنعهم، وقاتلهم، فانكشفوا بين يديه، وتبعهم حتى أدخلهم نهر أبي الخصيب، وانقطع عن أصحابه، فعطفوا عليه، فأخذوه ومن معه بعد حرب شديدة، فقتلوأن وسلمت الشذوات مع أبي العباس، وأصلحهأن ورتب فيها من يقاتل.
ثم أقبلت شذوات العلوي على عاداتهأن فخرج إليهم أبوالعباس في أصحابه، فقاتلهم فهزمهم، وظفر منهم بعدة شذوات، فقتل منهم من ظفر به فيهأن فمنع الخبيث أصحابه من الخروج عن فناء قصره، وقطع أبوالعباس الميرة عنهم، فاشتد جزع الزنج، وطلب جماعة من وجوه أصحابه الأمان، فأمنوأن وكان منهم محمد بن الحرث القمي، وكان إليه ضبط السور مما يلي عسكر الموفق، فخرج ليلأن فأمنه الموفق، ووصله بصلات كثيرة له ولمن خرج معه، وحمله على عدة دواب بآلاتها وحليتهأن وأراد إخراج زوجته فلم يقدر، فأخذها الخبيث فباعها؛ ومنهم أحمد اليربوعي، وكان من أشجع رجال العلوي، وغيرهمأن فخلع عليهم، ووصلهم بصلات كثيرة.
ولما انقطعت الميرة والمواد عن العلوي أمر شبلاً وأبوالبذي، وهما من رؤساء قواده يثق بهم، بالخروج إلى البطيحة في عشرة آلاف من ثلاثة وجوه للغارة على المسلمين، وقطع الميرة عن الموفق، فسر الموفق إليهم زيرك في جمع من أصحابه، فلقيهم بنهر ابن عمر، فرأى كثرتهم، فراعه ذلك، ثم استخار الله تعالى في قتالهم، فحمل عليهم وقاتلهم، فقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فانهزموأن ووضع فيهم السيف، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم مثل ذلك، وأسر خلقاً كثيرأن وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه، وغرق ما أمكنه تغريقه، وكان ما أخذه من سفنهم نحوأربع مائة سفينة، وأقبل بالأسارى والرؤوس إلى مدينة الموفق.

.ذكر عبور الموفق مدينة صاحب الزنج:

وفيها عبر الموفق إلى مدينة الخبيث لست بقين من ذي الحجة، وكان سبب ذلك أن جماعة من قواد الخبيث لما رأوا ما حل بهم من البلاء من قبل من يظهر منهم، وشدة الحصار على من لزم المدينة، وحال من خرج بالأمان، جعلوا يهربون من كل وجه، ويخرجون إلى الموفق بالأمان.
فلما رأى الخبيث ذلك جعل على الطرق التي يمكنهم الهرب منها من يحفظها؛ فأرسل جماعة من القواد إلى الموفق يطلبون الأمان، وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشاً ليجدوا طريقاً إلى المصير إليه، فأمر ابنه أبا العباس بالمسير إلى النهر الغربي، وبه علي بن أبان يحميه، فنهض أبوالعباس ومعه الشذوات، والسميريات، والمعابر، فقصده، وتحارب هووعلي بن أبان واشتدت الحرب، واستظهر أبوالعباس على الزنج، وأمد الخبيث أصحابه بسليمان بن جامع في جمع كثير، فاتصلت الحرب من بكرة إلى العصر، وكان الظفر لأبي العباس، وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان.
واجتاز أبوالعباس بمدينة الخبيث عند نهر الأتراك، فرأى قلة الزنج هناك، فطمع فيهم، فقصدهم أصحابه وقد انصرف أكثرهم إلى الموفقية، فدخلوا ذلك المسلك، وصعد جماعة منهم السور وعليه فريق من الزنج، فقتلوهم، وسمع العلوي فجهز أصحابه لحربهم، فلما رأى أبوالعباس اجتماعهم وحشدهم لحربه مع قلة أصحابه، رحل فأرسل إلى الموفق يستمده، فأتاه من خف من الغلمان، فظهروا على الزنج فهزموهم.
وكان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أبي العباس سار في النهر مصعداً في جمع كبير، ثم أتى أصحاب أبي العباس من خلفهم، وهم يحاربون من بإزائهم، وخففت طبوله، فانكشف أصحاب أبي العباس، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيب جماعة من غلمان الموفق وغيرهم، فأخذ الزنج عدة أعلام، وحامى أبوالعباس عن أصحابه، فسلم أكثرها ثم انصرف.
وطمع الزنج بهذه الوقعة، وشدت قلوبهم، فأجمع الموفق على العبور إلى مدينتهم بجيوشه أجمع، وأمر الناس بالتأهب، وجمع المعابر والسفن وفرقها عليهم، وعبر يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة، وفرق أصحابه على المدينة ليضطر الخبيث إلى تفرقة أصحابه، وقصد الموفق إلى ركن من أركان المدينة، وهوأحصن ما فيهأن وقد أنزله الخبيث ابنه، وهوانكلاي، وسليمان ابن جامع، وعلي بن أبان وغيرهم، وعليه من المجانيق والآلات للقتال ما لا حد له.
فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه بالدنومن ذلك الركن، وبينهم وبين ذلك السور نهر الأتراك، وهونهر عريض كثير الماء، فأحجموا عنه، فصاح بهم الموفق، وحرضهم على العبور، فعبروا سباحة، والزنج ترميهم بالمجانيق، والمقاليع، والحجارة، والسهام، فصبروا حتى جاوزوا النهر وانتهوا إلى السور ولم يكن عبر معهم من الفعلة من كان أعد لهدم السور، فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح، وسهل اله تعالى ذلك، وكان معهم بعض السلاليم، فصعدوا على ذلك الركن، ونصبوا علماً من أعلام الموفق، فانهزم الزنج عنه، وأسلموه بعد قتال شديد، وقتل من الفريقين خلق كثير؛ ولما علا أصحاب الموفق السور أحرقوا ما عليه من منجنيق وقوس وغير ذلك.
وكان أبوالعباس قصد ناحية أخرى، فمضى علي بن أبان إلى مقاتلته، فهزمه أبوالعباس، وقتل جمعاً كثيراً من أصحابه ونجا علي، ووصل أصحاب أبي العباس إلى السور، فثلموا فيه ثلمة ودخلوه، فلقيهم سليمان ابن جامع، فقاتلهم حتى درهم إلى مواضعهم؛ ثم أن الفعلة وافوا السور فهدموه في عدة مواضع، فعملوا على الخندق جسرأن فعبر عليه الناس من ناحية الموفق، فانهزم الزنج عن سور باب كانوا قد اعتصموا به، وانهزم الناس معهم، وأصحاب الموفق يقتلونهم، حتى انتهوا إلى نهر ابن سمعان، وقد صارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق، فأحرقوهأن وقاتلهم الزنج هناك، ثم انهزموا حتى بلغوا ميدان الخبيث، فركب في جمع من أصحابه، فانهزم أصحابه عنه، وقرب منه بعض رجالة الموفق، فضرب وجه فقرسه بترسه، وكان ذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفق الناس بالجوع، فرجعوا ومعهم من رؤوس أصحاب الخبيث شيء كثير.
وكان قد استأمن إلى أبي العباس أول النهار نفر من قواد الخبيث، فتوقف عليهم حتى حملهم في السفن، وأظلم الليل، وهبت ريح عاصف، وقوي الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين، فخرج جماعة من الزنج فنالوا منهأن وقتلوا فيها نفرأن وكان بهبود بإزاء مسرور البلخي، فأوقع بأصحاب مسرور، وقتل منهم جماعة، وأسر جماعة، فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق.
وكان بعض أصحاب الخبيث قد انهزم على وجهه نحونهر الأمير، والقندل، وعبادان، وهرب جماعة من الأعراب إلى البصرة، وأرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم الموفق، وخلع عليهم وأجرى الأرزاق عليهم، وكان ممن رغب في الأمان من قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي، وكان من رؤساء أصحابه، أرسل يطلب الأمان، وأن يرسل جماعة إلى مكان ذكره ليخرج إليهم، ففعل الموفق، فصار إليه فخلع عليه، واحسن إليه ووصله، وضمه إلى أبى العباس، واستأمن من بعده جماعة من أصحابه؛ وكان خروج ريحان لليلة بقيت من ذي الحجة من السنة.

.ذكر الحرب بين الخوارج ببلد الموصل:

في هذه السنة كان بين هارون الخارجي وين محمد بن خرزاد، وهومن الخوارج أيضاً وقعة ببعدرى من أعمال الموصل.
وسبب ذلك أنا قد ذكرنأن سنة ثلاث وستين ومائتين، الحرب الحادثة بين هارون ومحمد بعد موت مساور، فلما كان إلى جمع محمد بن خرزاد أصحابه وسار إلى هارون محارباً له، فنزل واسط، وهي محلة بالقرب من الموصل، وكان يركب البقر لئلا يفر من القتال، ويلبس الصوف الغليظ، ويرفع ثيابه، وكان كثير العبادة والنسك، ويجلس على الأرض ليس بينها وبينه حائل.
فلما نزل واسط خرج إليه وجوه أهل الموصل وكان هارون بمعلثايا يجمع لحرب محمد، فلما سمع بنزول محمد عند الموصل سار إليه ورحل ابن خرزاد نحوه، فالتقوا بالقرب من قرية شمرخ، واقتتلوا قتالاً شديداً كان فيه مبارزة وحملات كثيرة، فانهزم هارون، وقتل من أصحابه نحومائتي رجل، منهم جماعة من الفرسان المشهورين، ومضى هارون منهزمأن فعبر دجلة إلى العرب قاصداً بني تغلب، فنصروه واجتمعوا إليه، ورجع ابن خرزاد من حيث أقبل، وعاد هارون إلى الحديثة، فاجتمع عليه خلق كثير، وكاتب أصحاب ابن خرزاد، واستمالهم، فأتاه منهم الكثير، ولم يبق مع ابن خرزاد إلا عشيرته من الشمردلية، وهم من أهل شهرزور، وإمنا فارقه أصحابه لأنه كان خشن العيش، وهوببلد شهرزور، وهوبلد كثير الأعداء، من الأكراد وغيرهم.
وكان هارون ببلد الموصل قد صلح حاله وحال أصحابه، فلما رأى أصحاب ابن خرزاد ذلك مالوا إليه وقصدوه، وواقع ابن خرزاد بنواحي شهرزور الأكراد الجلالية وغيرهم، فقتل، وتفرد هارون بالرئاسة على الخوارج، وقوي وكثر أتباعه، وغلبوا على القرى والرساتيق، وجعلوا على دجلة من يأخذ الزكاة من الأموال المنحدرة والمصعدة، وبثوا نوابهم في الرساتيق يأخذون الأعشار من الغلات.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ابتدر ابن حفصون بالأندلس بالخلاف على محمد بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، بناحية رية، فخرج إليه جيش من تلك الناحية مع عاملهأن فقاتله، فانهزم صاحب الأندلس، وقوي أمر عمر بن حفصون، وشاع ذكره، وأتاه من يريد الشر والفساد، فسير محمد، صاحب الأندلس، عاملاً آخر في جيش، فصالحه عمر، فطلب الهامل كل من كان له أثر في مساعدة عمر، فأهلكه، وفيهم من أبعده، فاستقامت تلك الناحية.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام، ومصر، وبلاد الجزيرة، وإفريقية، والأندلس، وكان قبلها هدة عظيمة قوية.
وفيها ولي جزيرة صقلية الحسن بن العباس، فبث السرايا إلى كل ناحية، وخرج إلى قطانية فأفسد زرعها وزرع طبرمين، وقطع أشجارهأن وسار إلى بقارة فأفسد زرعهأن وانصرف إلى بلرم، وأخرجت الروم سرايا فأصابوا من المسلمين كثيرأن وذلك أيام الحسن بن العباس.
وفيها حبس السلطان محمد بن عبد الله بن طاهر وعدة من أهل بيته، بعد ظفر الخجستاني بعمر بن الليث، وكان عمرواتهمه بمكاتبة الخجستاني والحسين بن طاهر، حيث كان يذكر أنه على منابر خراسان.
وفيها كانت بين كيغلغ التركي وبين أصحاب أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف حرب انهزم فيها أصحاب أحمد، وسار كيغلغ إلى همذان، فوافاه أحمد بن عبد العزيز فيمن اجتمع إليه من أصحابه، فانهزم كيغلغ وانحاز إلى الصيمرة.
وفيها في ربيع الآخر أم حبيب بنت الرشيد.
وفيها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداجيق، وإسحاق بن أيوب، وعيسى ابن الشيخ، وأبي المغر، وحمدان بن حمدون، ومن اجتمع إليهم من ربيعة، وتغلب، وبكر، واليمن، فهزمهم ابن كنداجيق إلى نصيبين، وتبعهم إلى آمد، وخلف على آمد من حصر عيسى، فكانت بينهم وقعات عند آمد.
وفيها دخل الخجستاني نيسابور، وانهزم عمروبن الليث وأصحابه، فأساء السيرة في أهلهأن وهدم دور معاذ بن مسلم، وضرب من قدر عليه منهم وترك ذكر محمد بن طاهر، ودعا للمعتمد ولنفسه.
وفيها في شوال كانت لأصحاب أبي الساج وقعة بالهيصم العجلي قتلوا فيها مقدمته، وغمنوا عسكره.
وفيها أقبل بن عبد اله الخجستاني يريد العراق، فبلغ سمنان، وتحصن منه أهل الري، فرجع إلى خراسان.
وفيها رجع حلق ثير من الحجاج من طريق مكة لشدة الحر، ومضى خلق كثير، فمات منهم عالم عظيم من الحر والعطش، وذاك كله في البيداء، وأوقعت فزارة فيها بالتجار، فأخذ فيما قيل سبع مائة حمل بز.
وفيها نفي الطباع من سامرأن وفيها ضرب الخجستاني لنفسه دنانير ودراهم. وحج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي محمد بن حماد بن بكر بن حماد أبوبكر المقرئ، صاحب خلف بن هشام، في ربيع الآخر، ببغداد.